كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال الذهبي: صدق الله، فإن من تأول سائر الصفات، وحمل ما ورد منها على مجاز الكلام، أداه ذلك السلب إلى تعطيل الرب وأن يشابه المعدوم، كما نقل عن جماد بن زيد أنه قال: مثل الجهمية كقوم قالوا: في دارنا نخلة، قيل: لها سعف؟ قالوا: لا، قيل: لها كرب؟ قالوا: لا، قيل: لها رطب؟ قالوا: لا، قيل: فلها ساق؟ قالوا: لا، قيل: فما في داركم نخلة. قلت: كذلك هؤلاء النفاة، قالوا: إلهنا الله تعالى؛ وهو لا في زمان، ولا في مكان، ولا يرى ولا يسمع، ولا يبصر ولا يتكلم، ولا يرضى ولا يريد، ولا ولا، وقالوا: سبحان المنزه عن الصفات. بل نقول: سبحان الله العلي العظيم السميع البصير المريد، الذي كلم موسى تكليما، واتخذ إبراهيم خليلا، ويرى في الآخرة، المتصف بما وصف به نفسه، ووصفه به رسله، المنزه عن سمات المخلوقين وعن جحد الجاحدين ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
وقال الذهبي رحمه الله أيضا: مقال متأخري المتكلمين، أن الله تعالى ليس في السماء، ولا على العرش ولا على السماوات ولا في الأرض، ولا داخل العالم ولا خارج العالم، ولا هو بائن عن خلقه ولا متصل بهم، وقالوا: جميع هذه الأشياء صفات الأجسام والله تعالى منزه عن الجسم، قال لهم أهل السنة والأثر: نحن لا نخوض في ذلك ونقول ما ذكرناه اتباعًا للنصوص ولا نقول بقولكم، فإن هذه السلوب نعوت للمعدوم، تعالى الله جل جلاله عن العدم، بل هو موجود متميز عن خلقه، موصوف بما وصف به نفسه، من أنه فوق العرش بلا كيف، انتهى.
وقال الإمام ابن تيمية في (الرسالة التدمرية) في القاعدة الأولى: إن الله سبحانه موصوف بالإثبات والنفي، فالإثبات كإخباره بأنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وأنه سميع بصير ونحو ذلك، والنفي كقوله: {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} وينبغي أن يعلم أن النفي ليس فيه مدح ولا كمال، إلا إذا تضمن إثباتا، وإلا فمجرد النفي ليس فيه مدح ولا كمال، لأن النفي المحض عدم محض، والعدم المحض ليس شيء، وما ليس بشيء فهو كما قيل ليس بشيء فضلا عن أن يكون مدحا أو كمالا، ولأن النفي المحض يوصف به المعدوم والممتنع، والمعدوم والممتنع لا يوصف بمدح ولا كمال، فلهذا كان عامة ما وصف الله به نفسه من النفي متضمنا لإثبات مدح، كقوله: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} إلى قوله: {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} فنفي السنة النوم يتضمن كمال الحياة والقيام، فهو مبين لكمال أنه الحي القيوم، وكذلك قوله: {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} أي لا يكرثه ولا يثقله، وذلك مستلزم لكمال قدرته وتمامها، بخلاف المخلوق القادر، إذا كان يقدر على الشيء بنوع كلفة ومشقة، فإن هذا نقص في قدرته وعيب في قوته، وكذلك قوله: {لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقال ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} فإن نفي العزوب مستلزم لعلمه بكل ذرة في السماوات والأرض، وكذلك قوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} فإن نفي مس اللغوب، الذي هو التعب والإعياء دل عل كمال القدرة ونهاية القوة، بخلاف المخلوق الذي يلحقه من التعب والكلال ما يلحقه، وكذلك قوله: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} إنما نفي الإدراك الذي هو الإحاطة كما قاله أكثر العلماء، ولم ينف مجرد الرؤية، لأن المعدوم لا يرى، وليس في كونه لا يرى مدح، إذ لو كان كذلك لكان المعدوم ممدوحا، وإنما المدح في كونه لا محاط به، وإن رئي، كما أنه لا يحاط به وإن علم، فكما أنه إذا علم لا يحاط به علما، فكذلك إذا رئي لا يحاط به رؤية، فكان في نفي الإدراك من إثبات عظمته، ما يكون مدحا وصفة كمال، وكان ذلك دليلا على إثبات الرؤية لا على نفيها، لكنه دليل على إثبات الرؤية مع عدم الإحاطة، وهذا هو الحق الذي اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها، وإذا تأملت ذلك وجدت كل نفي لا يستلزم ثبوتا، هو مما لم يصف الله به نفسه، الذين لا يصفونه إلا بالسلوب، لم يثبتوا في الحقيقة إلها محمودا، بل ولا موجودا، وكذلك من شاركهم في بعض ذلك، كالذين قالوا لا يتكلم أو لا يرى أو ليس فوق العالم أو لم يستو على العرش، ويقولون: ليس بداخل ا لعالم ولا خارجه ولا مباين للعالم ولا مجانب له، إذ هذه الصفات يمكن أن يوصف بها المعدوم، وليست هي صفة مستلزمة صفة ثبوت، ولهذا قال محمود بن سبكتكين لمن ادعى ذلك في الخالق: ميز لنا بين هذا الرب الذي نثبته وبين المعدوم، وكذلك كونه لا يتكلم أولا ينزل، ليس في ذلك صفة مدح ولا كمال، بل هذه الصفات فيها تشبيه له بالمنقوصات أو المعدومات، فهذه الصفات منها ما لا يتصف به إلا المعدوم ومنها ما لا يتصف به إلا الجمادات والناقص، فمن قال لا هو مباين للعالم ولا مداخل للعالم، فهو بمنزلة من قال لا هو قائم بنفسه ولا بغيره ولا قديم ولا محدث ولا متقدم على العالم ولا مقارن له، ومن قال إنه ليس بحي ولا سميع ولا بصير ولا متكلم، لزمه أن يكون ميتا أصم أعمى أبكم، فإن قال العمى عدم البصر عما من شأنه أن يقبل البصر، وما لم يقبل البصر كالحائط لا يقال له أعمى ولا بصير، قيل له هذا اصطلاح اصطلحتموه، وإلا فما يوصف بعدم الحياة والسمع والبصر والكلام يمكن وصفه بالموت والعمى والخرس والعجمة، وأيضا فكل موجود يقبل الاتصاف بهذه الأمور ونقائضها، فإن الله قادر على جعل الجماد حيا كما جعل عصا موسى حية ابتلعت الحبال والعصي، وأيضا فالذي لا يقبل الاتصاف بهذه الصفات أعظم نقصا مما يقبل الاتصاف مع اتصافه بنقائضها، فالجماد الذي لا يوصف بالبصر ولا العمى ولا الكلام ولا الخرس، أعظم نقصا من الحي الأعمى الأخرس، فإن قيل إن البارئ لا يمكن اتصافه بذلك، كان في ذلك من وصفه بالنقص أعظم مما إذا وصف بالخرس والعمى والصمم ونحو ذلك، مع أنه إذا جعل غير قابل لها كان تشبيها له بالجماد الذي لا يقبل الاتصاف بواحد منها، وهذا تشبيه بالجمادات لا بالحيوانات، فكيف من قال ذلك على غيره مما يزعم أنه تشبيه بالحي، وأيضا فنفس نفي هذه الصفات نقص، كما أن إثباتها كمال، فالحياة من حيث هي هي، مع قطع النظر عن تعيين الموصوف بها، صفة كمال، وكذلك العلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والعقل ونحو ذلك، وما كان صفة كمال فهو سبحانه أحق أن يتصف به من المخلوقات، فلو لم يتصف به مع اتصاف المخلوق به، لكان المخلوق أكمل منه.
{لَهُ مَقاليدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي: مفاتيح الأرزاق وخزائن الملك والملكوت: {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ} أي: يوسع رزقه وفضله على من يشاء من خلقه ويغنيه، ويقتّر على آخرين: {إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْء عَلِيمٌ شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} اعلم أنه تعالى لما عظم وحيه إلى النبي صلى الله عليه وسلم لقوله: {كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الشورى: 3]، ذكر في هذه الآية تفصيل ذلك، وهو ما شرعه له ولهم من الاتفاق على عبادته وحده لا شريك له كما قال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إليه أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25]، وفي الحديث: «نحن معاشر الأنبياء أولاد علات ديننا واحد». يعني: عبادة الله تعالى وحده لا شريك له، وإن اختلفت شرائعهم ومناهجهم. كقوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48]. وتخصيص هؤلاء الخمسة، وهم أولو العزم عليهم السلام، بالذكر، لأنهم أكابر الأنبياء وأصحاب الشرائع العظيمة والأتباع الكثيرة. ولاستمالة قلوب الكفرة، لاتفاق الكل على نبوة بعضهم. وابتدأ بنوح عليه السلام لأنه أول الرسل. والمعنى: شرع لكم من الدين ما وصى به جميع الأنبياء من عهد نوح عليه السلام إلى زمن نبينا عليه الصلاة السلام. والتعبير بالتوصية فيهم والوحي له، للإشارة إلى أن شريعته صلى الله عليه وسلم هي الشريعة الكاملة. ولذا عبر فيه بـ: الذي، التي هي أصل الموصولات. وأضافه إليه بضمير العظمة، تخصيصًا له ولشريعته بالتشريف وعظم الشأن وكمال الاعتناء.
وهو السر في تقديمه على ما بعده مع تقدمه عليه زمانًا: {كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إليه} أي: من إخلاص العبادة لله وإفراده بالألوهية والبراءة مما سواه من الأوثان: {اللَّهُ يَجْتَبِي إليه مَن يَشَاء} وهو من صرف اختياره إلى ما دعي إليه: {وَيَهْدِي إليه مَن يُنِيبُ} أي: يوفق للعمل لطاعته وإتباع رسله، من يُقبل إلى طاعته، ويتوب من معاصيه. ثم أشار إلى أهل الكتاب، إثر بيان حال المشركين، بقوله: {وَمَا تَفَرَّقُوا} أي: في دينهم وصاروا شيعًا: {إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ} أي: الدلائل الصحيحة، والبراهين اليقينية على حقية ما لديهم: {بَغْيًا بَيْنَهُمْ} أي: ظلمًا، وتعديًا، وطلبًا للرئاسة: {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} وهو تأخير العذاب إلى يوم القيامة: {لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ} أي: باستئصالهم، لاستيجاب جناياتهم لذلك: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ} وهم أهل مكة الذين مَنَّ الله عليهم بالكتاب العزيز: {لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ} أي: موقع لأتباعهم في الشك، لكثرة ما يبثونه من الوساوس الصادة عن سبيل الله.
{فَلِذَلِكَ فَادْعُ} أي: فلأجل ما ذكر من التفرق والشك المريب، فادع الناس كافة إلى إقامة الدين لمقاومة الباطل ودحره، وهتك وساوسه: {وَاسْتَقِمْ} أي: على الدعوة إليه، والصدع به: {كَمَا أُمِرْتَ} أي: أوحي إليك: {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أنزل الله مِن كِتَابٍ} أي: أي: كتاب كان، لا كالذين آمنوا ببعض، وكفروا بعض. وفيه تحقيق للحق، وبيان لاتفاق الكتب في الأصول، وتأليف لقلوب أهل الكتابين، وتعريض بهم. أفاده أبو السعود {وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} أي: لأسوي بينكم في دعوة واحدة، كما قال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا} [آل عِمْرَان: 64]. ثم أشار إلى أن ما وراء الأمر المذكور، والتبليغ به من الحساب، فهو إليه تعالى. فقال: {اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ} أي: لا خصومة ولا محاجة بعد هذا؛ لأن الحق قد ظهر، ولم يبق للمحاجة حاجة، ولا للمخالفة محل سوى المكابرة. والحجة في الأصل مصدر بمعنى الاحتجاج. كما ذكره الراغب. وتكون بمعنى الدليل. والمراد هو الأول دون الثاني. وهو ظاهر: {اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا} أي: يوم القيامة، فيقضي بالحق فيما اختلفنا: {وَإليه الْمَصِيْرُ} أي: المعاد والرجع للجزاء.
تنبيهان:
الأول- تفسير العدل بما ذكرناه، لأنه الذي يقتضيه سياق الكلام لاسيما والسورة مكية، ولم يكن مظهره صلوات الله عليه بها فصل الخصومات والقضاء في الحكومات. نعم من ذهب إلى ذلك فإنما وقف مع عمومها. ومنه قول قتادة: أُمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يعدل حتى مات. والعدل ميزان الله في الأرض، به يأخذ للمظلوم من الظالم، وللضعيف من الشديد، وبالعدل يصدق الله الصادق، ويكذب الكذاب، وبالعدل يرد المعتدي ويوبخه.
الثاني- قال ابن كثير: اشتملت هذه الآية الكريمة على عشر كلمات مستقلات. كل منها منفصلة عن التي قبلها. حكم برأسها. قالوا: ولا نظير لها سوى آية الكرسي. فإنها أيضًا عشرة فصول كهذه. انتهى.
{وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ} أي: يخاصمون في دينه الذي ابتعث به خاتم أنبيائه، وهم الذين أورثوا الكتاب، المذكورون قبلُ، ليصدوا عن الهدى طمعًا في عود الجاهلية: {مِن بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ} أي: استجاب له الناس؛ أي: بالاستسلام والانقياد لدينه حسبما قادهم إليه العقل السليم، والنظر الصحيح، وسيرة الداعي، وهديه، وحسن دعوته، وتصديق الكتب المنزلة له، وسلامة الفطرة: {حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ} أي: زائلة لأنها في باطل. والباطل لا بقاء له مع قوة الحق: {عِندَ رَبِّهِمْ} أي: في حكمه وقضائه وتقديره. قال أبو السعود: وإنما عبر عن أباطيلهم بالحجة، مجاراة معهم على زعمهم الباطل: {وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ} أي: عظيم، لمكابرتهم الحق بعد ظهوره: {وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} وهو عذاب النار.
{اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} أي: متلبسًا به في أحكامه وأخباره: {وَالْمِيزَانَ} أي: وأنزل الميزان، وهو العدل الذي يوزن به الحقوق، ويسوى به الخلاف: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قريبٌ} قال أبو السعود: أي: شيء قريب، أو قريب مجيئها، أو الساعة بمعنى البعث. والمعنى أنها على جناح الإتيان. فاتبع الكتاب، واعمل به، وواظب على العدل قبل أن يفاجئك اليوم الذي توزن فيه الأعمال، ويوفى جزاؤها.
{يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا} أي: خائفون منها. قال ابن جرير: لأنهم لا يدرون ما الله فاعل بهم فيها: {وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ} أي: المتحقق وجوده لا محالة: {أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ} أي: لإنكارهم عدل الله، وحكمته.
{اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ} أي: يلطف بهم في تدبير إيصال ما يفتقرون من خير الدين والدنيا: {يَرْزُقُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْقَوِيُّ العَزِيزُ مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ}.
قال الزمخشري: سمي ما يعلمه العامل مما يبتغي به الفائدة والزكاء، حرثًا على المجاز- أي: بتشبيهه بالزرع من حيث إنه فائدة تحصل بعمل الدنيا، ولذلك قيل: الدنيا مزرعة الآخرة. وفرق بين عمل العاملين بأن من عمل للآخرة، وفق في عمله وضوعفت حسناته. ومن كان عمله للدنيا أعطي شيئًا منها، لا ما يريده ويبتغيه، وهو رزقه الذي قسم له وفرغ منه، وما له نصيب قط في الآخرة، ولم يذكر في معنى عامل الآخرة وله في الدنيا نصيب على أن رزقه المقسوم له، واصلٌ إليه لا محالة- للاستهانة بذلك إلى جنب ما هو بصدده من زكاء عمله، وفوزه في المآب. انتهى.
وهذه الآية كآية: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء} [الإسراء: 18]، الخ.
{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ} أم: منقطعة، فيها معنى بل والهمزة، ولا بد من سبق كلام، خبرًا أو إنشاء، يضرب عنه ويقرر ما بعده. وما سبق قوله: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} [الشورى: 13]، الخ فهو معطوف عليه، وما بينهما من تتمة الأول. والمراد بشركائهم، إما شياطينهم لأنهم شاركوهم في الكفر وحملوهم عليه، وإما أوثانهم، وإضافتها إليهم لأنهم متخذوها شركاء وإن لم تكن كذلك في الحقيقة. وعلى الثاني، فإسناد الشرع إليها، لأنها سبب ضلالهم وافتتانهم بما تدينوا به، أو لأنها على صورة المشّرع الذي سن هذه الضلال لهم، ويجوز كون الاستفهام المقدر حينئذ للإنكار. أي: ليس لهم شرع ولا شارع. كما في قوله: {أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا} [الأنبياء: 43]، {وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ} أي: القضاء السابق بأن الجزاء في القيامة لا في الدنيا. أو لولا ما وعدهم الله به من أنه يفصل بينهم ويبيّن في الآخرة. فالفصل بمعنى البيان: {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} أي: لفرغ من الحكم بين الكافرين والمؤمنين، بتعجيل العذاب للكافرين: {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ تَرَى الظَّالِمِينَ} أي: يوم البعث: {مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا} أي: من السيئات: {وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ} أي: نازل بهم لا محالة: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الكَبِيرُ ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} أي: لا أسألكم على دعايتكم إلى ما أدعوكم إليه من الحق الذي جئتكم به، والنصيحة التي أنصحكم، ثوابًا، وجزاء، وعوضًا من أموالكم تعطونيه: {إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقربَى} أي: أن تودوني في القرابة التي بيني وبينكم، وتصلوا الرحم التي بيننا، ولا يكن غيركم، يا معشر قريش، أولى بحفظي ونصرتي ومودتي منكم.
قال الشهاب: المودة مصدر مقدر بـ: أن الفعل. والقربى مصدر كالقرابة. وفي للسببية. وهي بمعنى اللام لتقارب السبب والعلة. والخطاب، إما لقريش أو لجميع العرب، لأنهم أقرباء في الجملة. انتهى. والاستثناء منقطع. ومعناه نفي الأجر أصلًا؛ لأن ثمرة مودتهم عائدة إليهم؛ لكونها سبب نجاتهم. فلا تصلح أن تكون أجرًا له. وقيل: المعنى أن تودوا قرابتي الذين هم قرابتكم ولا تؤذوهم. وقيل القربى التقرب إلى الله تعالى. أي: إلا أن تتوددوا إلى الله فيما يقربكم إليه. والمعنى الأول هو الذي عول عليه الأئمة. ولم يرتض ابن عباس رضي الله عنه، غيره. ففي البخاري عنه أنه سئل عن قوله تعالى: {إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقربَى} فقال سعيد بن جبير: القربى آل محمد. فقال ابن عباس: عجلت. إن النبي صلى الله عليه وسلم، لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة. فقال: «إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة».